التاريخ الأسود

ساموري توري.. “نابليون الأفريقي” عدو الفرنسيين

جسدَّ البطولة والمقاومة ضد الغزاة الأوروبـيـين، وهو مؤسس جمهورية غينيا.

من الزعماء الأفارقة الذين لعبوا دورًا هامًا في القارة الأفريقية زمن الاستعمار الأوروبي، جسدَّ البطولة والمقاومة ضد الغزاة الأوروبـيـين، وهو مؤسس جمهورية غينيا.

هو القائد المسلم، ساموري توري، الذي اســتــمــر فــي مــقــاومــة الــغــزاة الأوروبيين حوالي 17 عـامـًا بـدءًا مـن عـام 1881 حتى القبض عليه عام 1898، وخلال تلك الفترة أسس دولة إسلامية في منطقة أعالي النيجر.

وتصـادف قـيـام جـهـاد سـامـوري تـوري مـع ظهور البحرية الفرنسية واستكمال سـلاح المشـاة بشكل جعله فعالاً وصالحًا للحروب في المستعمرات الأفريقية، ليصير هذا السلاح من أحدث وسـائـل الـغـزو الـتـي استخدمتها الدول الأوروبية.

ورغم أن ساموري شن حـرب جـهـاد فـي المـنـطـقـة كـالحـاج عـمـر الــفــوتــي التكروري وابنه أحمدو، كانـت لـديـه الـقـدرة عـلـى الـرؤيـة بـوضـوح والتجاوب بفاعليـة مـع الـظـروف المتغيرة.

وكـانـت رســالــتــه الــكــبــرى فــي الحــيــاة هــي الــدفــاع عــن إمبـراطـوريـة كـانـت إلـى حـد كـبـيـر نـتـيـجـة جـهـوده الشخصية قد قامت من أجل نشر الدين الإسلامي في غرب أفريقيا، ومواجهة التوسع الاستعماري ومقاومة التوغل المسيحي في القارة.

سيرة ساموري

وبتتبع سيرة الزعيم الأفريقي منذ نـشـأة دولـتـه وعـلاقـاتـه بالدول الأخرى، ثم تأسيسه وبناء دولته يتبين عظم الدور الذي قام به في مقاومة التوسع الفرنسي في المنطقة حتى تم القضاء عليه.

ولد ساموري توري عام 1835م في ساننكورو بالقرب من بلدة بيساندوغو في وسط ما يسمى اليوم بجمهورية غينيا كوناكري.

كان والده يعمل مزارعًا بين قبائل المالنك، وينتمي إلى طبقة من التجار المسلمين المعروفين باسم الديولا، وكانت قبيلة ساموري توري تعيش حول مدينة جني ضمن إمبراطورية مالي الإسلامية، ثم توجهت في القرن الخامس عشر إلى أعالي نهر النيجر.

قضى ساموري توري السنوات الأولى من حياته في قرية والده، ولما بلغ سنته السابعة ذهب للعيش مع خالته وزوجها في إحدى القرى المجاورة، عمل هناك في الزراعة وتربية الماشية، ولمَّا عاد إلى أبيه مرة ثانية قام أبوه بتدريبه على أصول التجارة والزراعة.

ملاحم ونضال

يمكن أن تنقسم الحياة النضالية لساموري توري إلى أربع مراحل:

  • مرحلة الاكتشاف والتفكير (1835- 1852م)

عندما بلغ ساموري توري ربيعه الثامن عشر طلب من والده السماح له بالعمل في التجارة مع الديولا، فأرسله والده إلى صديق له ليدربه على تجارة السلاح والبارود.

ومن خلال ذلك عرف ساموري أماكن الحصول على السلاح عندما بدأ يفكر في بناء إمبراطورتيه، وفي تلك المرحلة اعتنق الإسلام والتزم بتعاليم الدين الإسلامي، لذا قضى معظم وقته بالدراسة والتفكير بالإضافة إلى ممارسة حرفة التجارة، وخلال هذه المرحلة سافر إلى عدة مناطق في السودان الغربي فاطلع على نظام حياة عدة مجتمعات هناك.

  • مرحلة التدريب على القتال (1852- 1861م)

وفي عام 1852م حمل بعض أصدقاء ساموري توري إليه أن قوات ملك بيساندوغو الوثني، سوري بيراما، قد اغارت على بلدته ساننسكورو وشعبها، ومن نتيجة ذلك تم أسر أمه.

وعند سماعه هذا الخبر أخذ يفكر في أفضل الطرائق لإنقاذ والدته من الأسر، وبعد ذلك قرر أن يخدم ذلك الملك الذي أسر أمه لمدة سبع سنين مقابل الإفراج عن والدته.

وخلال تلك المرحلة استطاع أن يتعلم طرق الدبلوماسية، كما أنه تدرب على فن قيادة جماعات الإغارة على القبائل الأخرى.

لكنه سرعان ما فرَّ من الجيش عام 1861م، وتحصن في الجبال تاركًا كل ممتلكاته، ليتحالف مع رجال مجاهد أخر يدعى موري يولي سيس، وأقسم على بناء دولة إسلامية في تلك المنطقة.

  • مرحلة البناء والتوسع وبناء الدولة الإسلامية (1861- 1881م)

بعد ولادة التحالف والتعاون بين رجال موري يولي سيس وساموري توري عام 1861م، جمع ساموري الرجال وعمل على تدريبهم على فنون القتال وتسليحهم، ما عزاه إلى تشكيل جيش مدربًا يضم جنودًا محترفين فضلًا عن الميلشيات الشعبية التي كانت تجيء من القرى في حالة الحرب.

وفي فترة وجيزة ذاع صيت ساموري توري وأخذ نفوذه يتمدد، وبين عامي 1865م و1879م تصادم مع قبائل تلك المنطقة فانسحب إلى الغابات، إلا أنه عاد إلى العلن من جديد، ولكن ظلت قواته أقل من قوات القبائل فنقل معسكرها إلى مدينة بيساندوغو عام 1873م، ومن هناك أعلن عن حماية التجارة وطرقها فتعاطف التجار معه وساعدوه في بناية امبراطوريته الجديدة.

عام 1874م بدأ ساموري الغزو التدريجي لكل القرى المجاورة لعاصمته، وفي العام نفسه تحالف مع المسلمين في مدينة كانكان، وساعدوه على التخلص من الحصار الوثني المضروب حولهم.

وبهذا استطاع أن يهزم جماعات مهمة من القبائل، وازدادت سيطرته على بعض المناطق، ونجح في تحطيم كل القوى المنافسة له، وصار أكبر قائد لإمبراطورية إسلامية عرفها شعب المالينك.

كان ساموري توري يفكر في مبدأ واحد يجمع شمل كل هذه المنطقة، ووجد أن تطبيق الشريعة الإسلامية هو أفضل السبل لحكم هذه الأقاليم من إمبراطوريته.

  • مرحلة الحرب مع فرنسا (1881- 1891م)

هذه الفترة مليئة بالبطولات والأحداث الجسام في حياة المجاهد المسلم في سبيل الدين والوطن ضد الغزو الأوروبي، الذي سعى إلى تدمير الحضارة الإسلامية تحت شعار إدخال الحضارة الأوروبية وتمدين الأفارقة.

تصادف قيام الدولة الإسلامية مع خطط الفرنسيين في السودان الغربي، وهو الأمر الذي جعل من المحتم دخول هذا المجاهد الإسلامي في صراع مع هذه القوى الاستعمارية.

ولقد وقفت القوى الأوروبية ضد طموحات ساموري توري الكبيرة، ولسوء حظه أنه بدء نضاله من أجل نشر العقيدة وإخضاع القبائل الوثنية في الوقت نفسه الذي راحت القوى الاستعمارية تبسط نفوذها على القارة الإفريقية بعد قرارات تقسيم القارة.

كان ظهور ساموري توري ودعوته للجهاد وتكوين إمبراطورية إسلامية قد تلازما وتواكبا مع التكالب الاستعماري على أفريقيا، وكان لابد من التصادم والصمود والكفاح في سبيل نصرة الدين والحضارة الإسلامية.

شرع الاستعمار الفرنسي يوطد دعائمه في المنطقة منذ عام 1842م حين وقع الفرنسيون معاهدات حماية مع الزعماء المحليين.

وقد بدأ ساموري صراعه مع القوات الفرنسية الاستعمارية منذ عام 1881م، ففي ذلك العام رفض الانسحاب من منطقة يسيطر عليها وتسليمها لفرنسا مما أدى إلى العديد من المعارك التي انتصر فيها ساموري.

غير أن قيام القبائل الوثنية بالهجوم على قوات ساموري توري، وتوقيع بعض منافسيه معاهدة مع فرنسا أدى إلى مواجهة عسكرية عام 1881م مع الجيش الفرنسي.

أمير المؤمنين

وبعد القضاء على منافسيه من الوثنيين في عام 1884م اتخذ ساموري لنفسه لقب الإمام أو أمير المؤمنين، وطلب من أهله ورعاياه اعتناق الدين الإسلامي، وفي العام نفسه ألغى شرب الخمور واستيرادها، ومنع كل العادات الوثنية، وبدأ في تطبيق الشريعة الإسلامية.

وبالرغم من صمود رجال ساموري أمام قوة الفرنسيين إلا أنه فضل مفاوضتهم عام 1886م وعقد معهم هدنة في العام التالي تخلى بموجبها عن بعض المناطق لفرنسا.

لكن سرعان ما عاد الفرنسيون إلى إعلان الحرب عليه عام 1891م، فدامت المعارك بين كر وفر حتى عام 1898م، كان يتبع أثناءها ساموري سياسة الأرض المحروقة.

 الأرض المحروقة

كان ساموري توري إذا قام بالانسحاب أما الجيش الفرنسي يقوم بحرق جميع الأراضي التي يتركها، فإذا وصلها الفرنسيون لا يجدون ما يحتاجونه فلا يستطيعون مواصلة تقدمهم انتظارًا لوصول الامدادات.

ومما يستدعي الانتباه أن أسلوب ساموري الحربي في تخريب المدن والقرى التي يهجرها، قد ساعد على استمرار المقاومة فترة طويلة نجح خلالها في مقاومة الفرنسيين وتكبيدهم خسائر طويلة.

وكان كلما انسحب أمام الفرنسيين، حرص على تدمير كل شيء حتى لا يستفيد منه الأعداء، لكن لم تمر الظروف في صالحه، إذ تم محاصرة قواته، ومنعته القبائل الوثنية من المرور عبر أراضيها.

بل أعلن العديد من القبائل الوثنية محاربته، بينما ساءت أوضاع المسلمين وأصابهم الإنهاك من طول فترة الحرب فتعرض جيش ساموري للجوع، وأصبح غير قادر على السيطرة على جنوده الذين يتضورون جوعًا ويبحثون عن أي شيء يأكلونه.

وفي إحدى الليالي استيقظ ساموري ليجد جيشه المكون من عشرة آلاف مقاتل لم يعد سوى ألفين، بينما تفرق الباقون في الغابات، فحاصرته القوات الفرنسية من كل جانب حتى وقع في الأسر وتم سجنه في 29 سبتمبر 1898م، وترحيله إلى الجابون حيث توفي عام 1900م.

عبقرية استراتيجية

كان ساموري توري رجلًا عبقريًا، حاضر البديهة، وتكمن عظمته في عبقريته الاستراتيجية التي كشفت عن نفسها خلال النضال والمواجهة ضد الأعداء، واستطاع أن يجمع شمل قبائل متناثرة، وعشائر متناحرة، وقوميات شتى، واستطاع أن يوحد كل هذه الجماعات تحت راية الإسلام.

كما كوّن أمة حديثة أخذت بأساليب التقدم والرخاء، وأقام مجتمعًا إسلاميًا، وطبق الشريعة الإسلامية، بعد أن حول كل فئات الشعب إلى الدين الحنيف.

وصار القائد المسلم والإمبراطورية التي أسسها حاجزًا مانعًا ضد طموحات الفرنسيين، وحاول الابتعاد عنهم، لكنهم وجدوا فيه خصمًا عنيدًا ومناضلًا جسورًا، وعبقرية إفريقية لا تلين، وقد عرضوا عليه الحماية فرفضها، وعرضوا عليه الانضمام إلى نفوذهم فأبى وقاوم.

وإذا كان قد هُزم في النهاية إلا أن ذلك لا يرجع إلى قصور في العمل أو تراجع عن المبادئ، ولكن السبب الرئيس يكمن في قلة الموارد وضعف الإمكانات.

اعتراف الأعداء بفضله

ويكفي هذا المناضل الأفريقي أنه استطاع أن يحكم منطقة واسعة من السودان الغربي، ولم ينشر الدين الإسلامي فقط بين القبائل الأفارقة، بل غرس في نفوس الناس روح العداء ومقاومة التوسع الأجنبي، وولد في نفوس هذا الشعب روح التضحية والفداء.

يقول الجنرال الإيطالي أورست باراتير، إن ساموري أظهر تفوقًا على كل زعماء القارة الإفريقية، وكان الوحيد الذي أعطى الدليل على صفات الزعيم، كان سياسيًا محنكًا، وقائدًا يمتلك الطاقة والقدرة على وضع الخطط الحربية التي يصعب تدميرها، وأنه إذا فقد جزءًا من الأرض فإنه لم يغادر الموقع إلا بعد أن الفرنسيين خسائر فادحة.

ويضيف في شهادته عن ساموري توري، أنه كان يعوض خسارته في الغرب بالاستيلاء على أجزاء مضاعفة من الشرق، وهذه استراتيجية كبرى لقائد مسلم رفض الاستسلام بسهولة، ولم يكن ساموري عبقرية عسكرية فحسب، بل كان أيضًا دبلوماسيًا بارعًا، يتضح ذلك من علاقاته بالحكام الأفارقة الآخرين وبالسلطات الفرنسية.

تقارير متصلة

زر الذهاب إلى الأعلى